سورة النور - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}
{والذين يَرْمُونَ المحصنات} شروع في بيان حكم من نسب الزنا إلى غيره بعد بيان حكم من فعله، والموصول على ما اختاره العلامة الثاني في التلويح منصوب بفعل محذوف يدل فعل الأمر بعد عليه أي اجلدوا الذين، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء ولا يخفى عليك خبره. والآية نزلت في امرأة عويمر كما في صحيح البخاري، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت بسبب ثصة الافك والرمي مجاز عن الشتم.
وجرح اللسان كجرح اليد ***
والمراد الرمي بالزنا كما يدل عليه إيراد ذلك عقيب الزواني مع جعل المفعول {المحصنات} الدال على النزاهة عن الزنا وهذا كالصريح في ذلك، ورا يدعى أن اشتراط أربعة من الشهود يشهدون بتحقق ما رمي به كما يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قرينة على المراد بناء على العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا، والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة، وقيل المراد الفروج المحصنات وفيه أن إسناد الرمي يأباه مع ما فيه من التوصيف بالمحصنات من مخالفة الظاهر.
وقال ابن حزم وحكاه الزهراوي: المراد الأنفس المحصنات؛ واستدل له أبو حيان بقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء} [النساء: 24] فإنه لولا أن المحصنات صالح للعموم لم يقيد. وتعقب بأن من النساء هناك قرينة على العموم ولا قرينة هنا، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم؛ والإحصان هنا لا يتحقق إلا بتحقق العفة عن الزنا وهو معناه المشهور وبالحرية والبلوغ والعقل والإسلام.
قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء في ذلك. ولعل غيره علم كما ستعلم إن شاء الله تعالى. وثبوته بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافًا لزفر. ووجه اعتبار العفة عن الزنا ظاهر لكن في شرح الطحاوي في الكلام على العفة عدم الاقتصار على كونها عن الزنا حيث قال فيها: بأن لم يكن وطىء امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد تسقط عدالته ولا حد على قاذفه، وكذا لوطىء في غير الملك كما إذا وطىء جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته، ولو وطىء في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطىء امرأته في الحيض أو أمته المجوسية.
وإن كانت مؤبدة سقطت عدالته كما إذا وطىء أمته وهي أخته من الرضاعة.
ولو مس امرأة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما يسقط، ولو وطىء امرأة بالنكاح ثم تزوج بها سقط إحصانه انتهى.
والمذكور في غير كتاب أن أبا حنيفة يشترط في سقوط الحد عن قاذف الواطىء في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة ثابتة بحديث مشهور كحرمة وطء المنكوحة بلا شهود الثابتة بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نكاح إلا بشهود» وهو حديث مشهور أو ثابتة بالإجماع كموطوأة أبيه بالنكاح أو لك اليمين لو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها، ومثل ذلك عنده وطء مزنيته فإنه لا يعتبر الخلاف عند ثبوت الحرمة بالنص وهنا قد ثبتت به لقوله تعالى: {مِنكُم ميثاقا غَلِيظًا وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 22] وإنما يعتبره إذا ثبتت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى الفرج والمس بشهوة فإن ثبوتها فيما ذكر لإقامة السبب مقام المسبب احتياطًا، ومن هذا يعلم حال فروع كثيرة فليحفظ، وما ذكر من سقوط إحصان من وطىء أمته وهي أخته من الرضاع فيه خلاف الكرخي فإنه قال، لا يسقط الإحصان بوطئها وهو قول الشافعي. ومالك. وأحمد لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية، وفيه أن الحرمة في وطء المجوسية يمكن ارتفاعها فتكون مؤقتة وحرمة الرضاع لا يمكن ارتفاعها فلم يكن المحل قابلًا للحل أصلًا، واشترط في الملك أن لا يظهر فساده بالاستحقاق فلو اشترى جارية فوطئها ثم استحقت فقذفه إنسان لا يحد، وفي كافي الحاكم والقهستاني والفتح أن الوطء في الشراء الفاسد يسقط الحد عن القاذف وحمله بعضهم على ما ذكرنا، وقال بعض الأجلة: كما يشترط العفة عن الزنا يشترط السلامة عن تهمته ويحترز به عن قذف ذات ولد ليس له أب معروف فإنهم ذكروا أنه لا يحد قاذفها لمكان التهمة، وقد ذكر ذلك الحصكفي في باب اللعان من شرح تنوير الأبصار، ولا تقاس اللواطة على الزنا فلو قذف بها لا يحد القاذف خلافًا لأبي يوسف: ومحمد وقد اختلفا في أحكام كثيرة ذكرها زين الدين في بحره. وأما اعتبار الحرية فلأنها يطلق عليها اسم الإحصان قال الله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فإن المراد بالمحصنات فيه الحرائر فالرقيق ليس محصنًا بهذا المعنى وكونه محصنًا عنى آخر كالإسلام وغيره فيكون محصنًا من وجه دون وجه وذلك شبهة في إحصانه فوجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنًا بجميع المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كون المقذوفة زوجة أو كون المقذوف زوجًا فإنه جاء عناه في قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء} [النساء: 24] أي المتزوجات ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم، ثم لا شك في أن الإحصان أطلق عنى الحرية كما سمعت وعنى الإسلام في قوله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] قال ابن مسعود: أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان، وعن داود عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد؛ وأما اعتبار العقل والبلوغ ففيه إجماع إلا ما روي عن أحمد عليه الرحمة من أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه، والأصح عنه موافقة الجماعة، وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصًا إذا كانت مراهقة فإن الحد لعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه العار، وكذا قوله وقول الليث: إنه يحد قاذف المجنون لذلك، والجماعة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما العار بنسبتهما إلى الزنا بل را يضحك من ناسبهما إليه إما لعدم صحة قصده منهما وإما لعدم مخاطبتهما بالمحرمات وما أشبه ذلك، ولو فرضنا لحوق عار بالمراهق فليس ذلك على الكمال فيندرىء الحد، ومثل الصبي والمجنون في أنه را يضحك من نسبة الزنا إليهما الرتقاء والمجبوب بل هما أولى بذلك لعدم تصوره فيهما ولذا لا يحد بقذفهما، وإلا ما روي عن سعيد. وابن أبي ليلى من أنه يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم، وكذا ما قيل: إنه يحد بقذفها إذا كانت تحت مسلم، ثم إن الإسلام والحرية إذا لم يكونا موجودين وقت الزنا المقذوف به بل كانا موجودين وقت القذف لا يفيدان شيئًا فلو قذف امرأة مسلمة زنت في نصرانيتها أو رجلًا مسلمًا زنى في نصرانيته وقال: زنيت وأنت كافرة أو زنيت وأنت كافر أو قذف معتقًا زنى وهو عبد أو معتقة زنت وهي أمة وقال: زنيت وأنت صغيرة أو زنيت وأنت مجنون بأنه لا يحد، وكان المدار في درء الحد الصدق في كل ذلك، ومن هنا قال في «المبسوط»: إن الموطوأة إذا كانت مكرهة يسقط أحصانها ولا يحد قاذفها كما يسقط إحصان المكره الواطىء ولا يحد قاذفه لأن الإكراه يسقط الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنى، لكن ذكر فيه أن من قذف زانيًا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنى آخر من جنسه أو أبهم في حالة القذف، ووجه أن الله تعالى أوجب الحد على من رمى المتصف بالإحصان وبالزنا لا يبقى إحصان فلا يثبت الحد خلافًا لإبراهيم. وابن أبي ليلى، نعم إذا كان القذف بزنا تاب عنه المقذوف يعزر القاذف، وهذا يقتضي أنه لا يحتاج سقوط الحد في المسائل السابقة إلى التقييد فليتأمل، ولو تزوج مجوسي بأمه أو بنته ثم أسلم ففسخ النكاح فقذفه مسلم في حال إسلامه يحد عند أبي حنيفة عليه الرحمة بناءً على ما يراه من أن أنكحة المجوس لها حكم الصحة.
وقال الإمامان: لا يحد بناءً على أن ليس لها حكم الصحة وهو قول الأئمة الثلاثة، ولا يعلم خلاف بين من يعتبر الحرية في الإحصان في أنه لا حد على من قذف مكاتبًا مات وترك وفاء لتمكن الشبهة في شرط الحد وهو الإحصان لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أنه مات حرًا أو عبدًا وذلك يوجب درء الحد ولأنه يدرأ بالشبهة، لا يحد من قذف أخرس فإن هناك احتمال أن يصدقه لو نطق ولا يعول على إشارته هنا وإن قالوا: إنها تقوم مقام عبارته في بعض الأحكام لقيام الاحتمال فيها، واشترطوا أيضًا أن يوجد الإحصان وقت الحد حتى لو ارتد المقذوف سقط الحد ولو أسلم بعد، وكذا لو زنى أو وطىء وطأً حرامًا أو صار معتوهًا أو أخرس وبقي ذلك لم يحد كما في كافي الحاكم، واشترطوا أيضًا أن لا يموت قبل أن يحد القاذف لأن الحد لا يورث، وأن لا يكون المقذوف ولد القاذف أو ولد ولده فلا يحد من قذف أحدهما إلى غير ذلك مما ستعلم بعضه إن شاء الله تعالى. ولم يصرح أكثر الفقهاء بشروط القاذف، ويفهم من كلامهم أنه يشترط فيه أن يكون بالغًا فلا يحد الصبي إذا قذف ويعزر عاقلًا فلا يحد المجنون ولا السكران إلا إذا سكر حرم ناطقًا فلا يحد الأخرس لعدم التصريح بالزنا، وصرح بهذا ابن الشلبي عن النهاية طائعًا فلا يحد المكره قاذفًا في دار العدل فلا يحد القاذف في دار الحرب أو البغي، وفي الآية إشارة إلى بعض ذلك، ويحتمل أن يعد من الشروط كونه عالمًا بالحرمة حقيقة أو حكمًا بأن يكون ناشئًا في دار الإسلام، لكن في كافي الحاكم حربي دخل دار الإسلام بأمان فقذف مسلمًا يحد في قوله الأخير وهو قول صاحبيه، وظاهره أنه يحد ولو كان قذفه في فور دخوله، ولعل وجهه أن الزنا حرام في كل ملة فيحرم القذف به أيضًا فلا يصدق بالجهل، ويشترط أن يكون القذف بصريح الزنا بأي لسان كان كما صرح به جمع من الفقهاء وألحقوا به بعض ألفاظ ثبت الحد بها بالأثر والإجماع فيحد بقوله: زنيت أو زاني بياء ساكنة وكذا يا زانىء بهمزة مضمومة عند أبي حنيفة. وأبي يوسف خلافًا لمحمد فلا يحد بذلك عنده لأنه حقيقة عنده في الصعود. وتعقب بأن ذلك إنما يفهم منه إذا ذكر مقرونًا حل الصعود، على أنه ينبغي أن يكون المذهب أنه لو قيل مع ذكر محل الصعود في حالة الغضب والسباب يكون قذفًا، فقد جزم في «المبسوط» بالحد فيما إذا قال: زنأت في الجبل أو على الجبل في حالة الغضب ولو قال لامرأة: يا زاني حد اتفاقًا، وعلله في الجوهرة بأن الأصل في الكلام التذكير، ولو قال للرجل: يا زانية لا يحد عند الإمام.
وأبي يوسف لأنه أحال كلامه فوصف الرجل بصفة المرأة، وقال محمد: يحد لأن الهاء تدخل للمبالغة كما في علامة. وأجيب بأن كونها للمبالغة مجاز بل هي لما عهد لها من التأنيث ولو كانت في ذلك حقيقة فالجد لا يجب للشك، ويحد بقوله: أنت أزنى من فلان أو مني على ما في الظهيرية وهو الظاهر، لكن في الفتح عن «المبسوط» أنه لا حد في أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، وعلله في «الجوهرة» بأن معناه أنت أقدر على الزنا، وفي الفتح بأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال: أنت أعلم بالزنا، ولا يخفى أن قصد ذلك في حالة السباب بعيد، وفي الخانية في أنت أزنى الناس أو أزنى من فلان الحد، وفي أنت أزنى مني لاحد، ولا يخفى أن التفرقة غير ظاهرة، وقد يقال: إن قوله: أنت أزنى من فلان فيه نسبة فلان إلى الزنا وتشريك المخاطب معه في ذلك بخلاف أنت أزنى مني لأن فيه نسبة نفسه إلى الزنا وذلك غير قذف فلا يكون قذفًا للمخاطب لأنه تشريك له فيما ليس بقذف، ويحد بلست لأبيك لما فيه من نسبة الزنا إلى الأم ولما جاء في الأثر عن ابن مسعود لاحد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل من أبيه، وقيد بكونه في حالة الغضب إذ هو في حالة الرضا يراد به المعاتبة بنفي مشابهته له، وذكر أن مقتضى القياس أن لا حد به مطلقًا لجواز أن ينفي النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية من كل وجه بأن تكون موطوأة بشبهة ولدت في عدة الواطىء لكن ترك ذلك للأثر، ولا حد بالتعريض كأن يقول ما أنا بزان أو ليست أمي زانية وبه قال الشافعي. وسفيان الثوري. وابن شبرمة والحسن بن صالح وهو الرواية المشهورة عن أحمد، وقال مالك. وهو رواية عن أحمد: يحد بتالعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان: عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الحد بالتعريض، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه جلد رجلًا بالتعريض، ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح، وللجماعة أن الشارع لم يعتبر مثله فإنه حرم صريح خطبة المتوفي عنها زوجها في العدة وأباح التعريض فقال سبحانه: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا} [البقرة: 235] وقال تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء أَوْ أَكْنَنتُمْ} [البقرة: 235] فإذا ثبت من الشرع عدم اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه، وهو أولى من الاستدلال بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم الحد للذي قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود يعرض بنفسه لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع ذلك، ولا حد بوطئك فلان وطأ حرامًا أو جامعك حرامًا أو فجرت بفلانة أو يا حرام زاده أو اذهب فقل لفلان: إنك زان فذهب الرسول فقال له ذلك عنه بأن قال: فلان يقول إنك زان لا إذا قال له: إنك زان فإنه يحد الرسول حينئذٍ، واستيفاء ما فيه حد وما لا حد فيه في كتب الفقه، وقولنا في كذا حد على إرادة إذا تحقق الشرط المفهو من قوله سبحانه: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ} الخ، واشترط الإتيان بأربعة شهداء تشديدًا على القاذف، ويشترط كونهم رجالًا لما صرحوا به من أنه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود، وظاهر إتيان التاء في العدد مشعر باشتراط كونهم كذلك، ولا يشترط فيهم العدالة ليلزم من عدم الإتيان بأربعة شهداء عدول الجلد لما صرح به في الملتقط من أنه لو أتى بأربعة فساق فشهدوا أن الأمر كما قال درىء الحد عن القاذف والمقذوف والشهود، ووجه ذلك أن في الفاسق نوع قصور وإن كان من أهل الأداء والتحمل ولذا لو قضى بشهادته نفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فيسقط الحد عنهم وعن القاذف وكذا عن المقذوف لاشتراط العدالة في الثبوت، ولو كانوا عميانًا أو عبيدًا أو محدودين في قذف فإنهم يحدون للقذف دون المشهود عليه لعدم أهلية الشهادة فيهم كما قيل.
والظاهر أن القاذف يحد أيضًا لأن الشهود إذا حدوا مع أنهم إنما تكلموا على وجه الشهادة دون القذف فحد القاذف أولى، والظاهر أن المراد ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على من رمى بأنه زنى، والمتبادر أن يكون ذلك عن معاينة لكن قال في الفتح: لو شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ عن القاذف الحد وكذا عن الثلاثة أي الرجل والمرأتين لأن الثابت بالبينة كالثابت فكأنا سمعناه إقراره بالزنا انتهى.
وأنت تعلم أن البينة على الإقرار لا تعتبر بالنسبة إلى حد المقذوف لأنه إن كان منكرًا فقد رجع بالإنكار عن الإقرار وهو موجب لدرء الحد فتغلو البينة، وإن أقر بشرطه لا تسمع فإنها إنما تسمع مع الإقرار في سبع مواضع ليس هذا الموضع منها، ويشترط اجتماع شهود الزنا في مجلس الحاكم بأن يأتوا إليه مجتمعين أو فرادى ويجتمعوا فيه ويقوم منهم إلى الحاكم واحد بعد واحد فإن لم يأتوا كذلك بأن أتوا متفرقين أو اجتمعوا خارج مجلس الحاكم ودخلوا واحدًا بعد واحد لم تعتبر شهادتهم وحدوا حد القذف.
والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في {أَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وبه قال أبو حنيفة. وأصحابه وروي ذلك عن الحسن. والشعبي وقال مالك. والشافعي: يلاعن الزوج وتحد الثلاثة، وروي مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وظاهر الآية أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد وحده ولا يجلد الشاهد إلا أن المأثور جلده، فقد روي أنه شهد على المغيرة بالزنا شبل بن معبد البجلي. وأبو بكرة. وأخوه نافع وتوقف زياد فحد الثلاثة عمر رضي الله تعالى عنه حضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكروا عليه وهم هم. وفي كلمة {ثُمَّ} إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة {لَمْ} إشارة إلى تحقق العجز عن الإتيان بهم وتقرره.
وفي غير كتاب من كتب الفروع لأصحابنا أن القاذف إذا عجز عن الشهود للحال واستأجل لإحضارهم زاعمًا أنهم في المصر يؤجل مقدار قيام الحاكم من مجلسه فإن عجز حد ولا يكفل ليذهب لطلبهم بل يحبس ويقال: ابعث إليهم من يحضرهم عند الإمام. وأبي يوسف في أحد قوليه لأن سبب وجوب الحد ظهر عند الحاكم فلا يكون له أن يؤخر الحد لتضرر المقذوف بتأخير دفع العار عنه والتأخير مقدار قيامه من المجلس قليل لا يتضرر به، وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد يكفل أي بالنفس إلى ثلاثة أيام.
وكان أبو بكر الرازي يقول: مراد أبي حنيفة أن الحاكم لا يجبره على ءعطاء الكفيل فإما إذا سمحت نفسه به فلا بأس لأن تسليم نفسه مستحق عليه والكفيل بالنفس إنما يطالب بهذا القدر، وذكر ابن رستم عن محمد أنه إذا لم يكن له من يأتي بالشهود يبعث معه الحاكم واحدًا ليرده عليه، والأمر في قوله سبحانه: {فاجلدوهم} لولاة الأمر ونوابهم.
والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة. وأصحابه. والأوزاعي. والشافعي: لا يحد إلا طالبته. وقال مالك: كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إن كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف كذا قال أبو حيان. وللمقذوف المطالبة وإن كان آمرًا للقاذف بقذفه لأن بالأمر لا يسقط الحد كما نقل الحصكفي ذلك عن شرح التكملة ثم لا يخفى أن القول بأن القاذف لا يحد إلا طالبة المقذوف ظاهر في أن الحد حق العبد ويشهد لذلك أحكام كثيرة ذكرها أصحابنا. منها أنه لا تبطل الشهادة على ما يوجبه بالتقادم.
ومنها أنه لا يدفعه الرجوع عن الإقرار وجبه. ومنها أنه يقام على المستأمن وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد. ومنها أنه يقدم استيفاؤه على استيفاء حد الزنا وحد السرقة وشرب الخمر. ومنها أنه يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه ولذا لو قذف بحضرته يحده.
وعندنا أحكام تشهد بأنه حق الله عز وجل. منها أن استيفاءه إلى الإمام وهو إنما يتعين نائبًا في استيفاء حق الله تعالى وأما حق العبد فاستيفاؤه إليه. ومنها أنه لا يحلف القاذف إذا أنكر سببه وهو القذف ولم تقم عليه بينة. ومنها أنه لا ينقلب مالا عند السقوط. ومنها أنه يتنصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقًا له عز وجل، وذكر ابن الهمام أنه لا خلاف في أن فيه حق الله تعالى وحق العبد إلا أن الشافعي مال إلى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى الحق سبحانه وتعالى ونحن صرنا إلى تغليب حق الله تعالى لأن ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد موجبًا لتغليب حق الله تعالى لا مهدارً ولا كذلك عكسه أي لو غلب حق العبد لزم أن لا يستوفي حق الله عز وجل إلا بأن يجعل ولاية استيفائه إليه وذلك لا يجوز إلا بدليل ينصبه الشرع على إنابة العبد في الاستيفاء ولم يثبت ذلك بل الثابت هو استنابة الإمام حتى كان هو الذي يستوفيه كسائر الحدود التي هي حقه سبحانه وتعالى. ويتفرع على الخلاف أن من ثبت أنه قذف فمات قبل إقامة الحد على القاذف لا يورث عنه إقامة الحدّ عندنا إذ الإرث يجري في حقوق العباد بشرط كونها مالًا أو ما يتصل بالمال أو ما ينقلب إليه وتورث عنده، وأن الحد لا يسقط عندنا بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف: لم يقذفني أو كذب شهودي وحينئذٍ يظهر أن القذف لم يقع موجبًا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك وهذا كما إذا صدقه المقذوف، وقال زين الدين: أن المقذوف إذا عفا لم يكن للإمام استيفاء الحد لعدم الطلب فإذا عاد وطلب يقيمه ويلغو العفو، وعند الشافعي يصح العفو وعن أبي يوسف مثله، وكان المراد أنه إذا عفا سقط الحد ولا ينفع العود إلى المطالبة وأنه لا يجوز الاعتياض عنه عندنا وبه قال مالك، وعنده يجوز وهو قول أحمد وأنه يجري فيه التداخل عندنا لا عنده وبقولنا قال مالك. والثوري. والشعبي. والنخعي. والزهري. وقتادة. وطاوس. وحماد. وأحمد في رواية حتى إذا حد الأسوطا فقذف آخر فإنه يتم الأول ولا شيء للثاني.
وكذا إذا قذف واحدًا مرات أو جماعة بكلمة مثل أنتم زناة أو بكلمات مثل أنت يا زيد زان وأنت يا عمرو زان وأنت يا بشر زان في يوم أو أيام يحد حدًا واحدًا إذا لم يتخلل حد بين القذفين.
ووافقنا الشافعي في الحد الواحد لقاذف جماعة بكلمة مرة واحدة، وفي الظهيرية من قذف إنسانًا فحد ثم قذفه ثانيًا لم يحد، والأصل فيه ما روي أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة فحد لما سمعت كان يقول بعد ذلك في المحافل: أشهد أن المغيرة لزان فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يحده ثانيًا فمنعه علي كرم الله تعالى وجهه فرجع إلى قوله وصارت المسألة إجماعًا اه، والظاهر أن هذا فيما حد به كما فعل أبو بكرة فإنه لم يردان المغيرة لزان أنه زان غير الزنا الأول، أما إذا قذفه بعد الحد بزنا آخر فإنه يحد به كما في الفتح.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في مبسوطه الصحيح أن الغالب في هذا الحد حق العبد كما قال الشافعي لأن أكثر الأحكام تدل عليه والمعقول يشهد له وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص، وقد نص محمد في الأصل على أن حد القذف كالقصاص حق العبد، وتفويضه إلى الإمام لأن كل أحد لا يهتدي إلى إقامته ولأنه را يريد المقذوف موته لحنقه فيقع متلفًا، وإنما لا يورث لأنه مجرد حق ليس مالاف ولا نزلته فهو كخيار الشرط وحق الشفعة بخلاف القصاص فإنه ينقلب إلى المال، وأيضًا هو في معنى ملك العين لأن من له القصاص يملك إتلاف العين وملك الإتلاف ملك العين عند الناس فصار من عليه القصاص كالملك لمن له القصاص فيملكه الوارث في حق استيفاء القصاص، وإنما لا يصح عفوه لأنه متعنت فيه لأنه رضا بالعار والرضا بالعار عار ولا يخفى ما في ذلك من الأبحاث.
والشافعي يستدل بالآية لعدم التداخل فإن مقتضاها ترتب الحكم على الوصف المشعر بالعلية فيتكرر بتكرره. ويجاب بأن الإجماع لما كان على دفع الحدود بالشبهات كان مقيدًا لما اقتضته الآية من التكرر عند التكرر بالتكرر الواقع من بعد الحد الأول بل هذا ضروري لظهور أن المخاطبين بالإقامة في قوله تعالى: {فاجلدوهم} هم الحكام ولا يتعلق بهم هذا الخطاب إلا بعد الثبوت عندهم فكان حاصل الآية إيجاب الحد إذا ثبت عندهم السبب وهو الرمي وهو أعم من كونه بوصف الكثرة أو القلة فإذا ثبت وقوعه منه كثيرًا كان موجبًا للجلد ثمانين ليس غير فإذا جلد ذلك وقع الامتثال، ثم هو عليه الرحمة ترك مقتضى التكرر بالتكرر فيما إذا قذف واحدًا مرة ثم قذفه ثانيًا بذلك الزنا فإنه لا يحد مرتين عنده أيضًا، وكذا في حد الزنا والشرب فإنه إذا زنى ألف مرة أو شرب كذلك لا يحد إلا مرة، فالحق أن استدلاله بالآية لا يخلص فإنه ملجىء إلى ترك مثلها من آية أخرى وهي آية حد الزنا فيعود إلى أن هذا حق آدمي بخلاف الزنا فكان المبني هو إثبات أنه حق الله عز وجل أو حق العبد، والنظر الدقيق يقتضي أن الغالب فيه حق الله سبحانه وتعالى فتدبر.
ثم الظاهر أن الرمي المراد في الآية لا يتوقف على حضور المرمى وخطابه فقذف المحصن حاضرًا أو غائبًا له الحكم المذكور كما في التاتارخانية نقلًا عن المضمرات واعتمده في «الدرر»، ويدل على أن الغيبة كالحضور حده صلى الله عليه وسلم أهل الإفك مع أنه لم يشافه أحد منهم به من نزهها الله تعالى عنه، فما في حاوي الزاهدي سمع من أناس كثيرة أن فلانًا يزني بفلانة فتكلم بما سمعه منهم مع آخر في غيبة فلان لا يجب حد القذف لأنه غيبة لأرمي وقذف بالزنا لأن الرمي والقذف به إنما يكون بالخطاب كقوله: يا زاني يا زانية ضعيف لا يعول عليه.
والظاهر أيضًا أنه لا فرق بين رمي الحي ورمي الميت فإذا قال: أبوك زان أو أمك زانية كان قاذفًا ويحد عند تحقق الشرط لا لو قال: جدك زان فإنه لا حد عليه لما في الظهيرية من أنه لا يدري أي جد هود وفي الفتح لأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفًا ما لم يعين محصنًا. ويطالب بحد القذف للميت من يقع القدح في نسبه بالقذف وهو الوالد وإن علا والولد وإن سفل، ولا يطالبان عن غائب خلافًا لابن أبي ليلى لعدم اليأس عن مطالبته ولأنه يجوز أن يصدق القاذف، وولد البنت كولد الابن في هذا الفصل خلافًا لما روي عن محمد، وتثبت المطالبة للمحروم عن الميراث بقتل أو رق أو كفر، نعم ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها في حال موتها، وعند زفر إذا كان الولد عبدًا أو كافرًا لا حق له فيها مطلقًا، وتثبت للأبعد مع وجود الأقرب فياطلب ولد الولد مع وجود الولد خلافًا لزفر ولو عفا بعضهم كان لغيره المطالبة لأنها لدفع العار عن نفسه، والأم كالأب تطالب بحد قذف ولادها لا أم الأم وأبوها، ولا يطالب الابن أباه وجده وإن علا بقذف أمه وهو قول الشافعي. وأحمد. ورواية عن مالك، والمشهور عنه أن للابن أن يطالب الأب بقذف الأم فيقيم عليه الحد وهو قول أبي ثور، وابن المنذر لعموم الآية أو ءطلاقها ولأنه حد هو حق الله عز وجل ولا يمنع من إقامته قرابة الولاد.
وأجيب بأن عموم قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} [الإسراء: 23] مانع من إقامة الولد الحد على أبيه ولا فائدة للمطالبة سوى ذلك والمانع مقدم، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده».
وأجمعوا على أنه لا يقتص منه بقتل ولده ولا شك أن إهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق الأولى مع أن القصاص متيقن سببه والمغلب فيه حق العبد بخلاف حد القذف فيهما، ولا حق لأخي الميت وعمه وعمته وخاله وخالته في المطالبة بحد قذفه.
وعند الشافعي. ومالك عليهما الرحمة تثبت المطالبة لكل وارث وهو رواية غريبة عن محمد، وللشافعية فيمن يرثه ثلاثة أوجه، الأول: جميع الورثة. والثاني: غير الوارث بالزوجية. والثالث: ذكور العصبات لا غير. والظاهر أن مطالبة من له المطالبة بالحد غير واجبة عليه بل في التاتارخانية وحسن أن لا يرفع القاذف إلى القاضي ولا يطالب بالحد. وحسن من الإمام أن يقول للمطالب أعرض عنه ودعه اه.
وكأنه لا فرق في هذا بين أن يعلم الطالب صدق القاذف وأن يعلم كذبه. وما نقل في القنية من أن المقذوف إذا كان غير عفيف في السر له مطالبة القاذف ديانة فيه نظر لا يخفى. وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن يكون الرامي حرًا وأن يكون عبدًا فيجلد كل منهما إذا قذف وتحقق الشرط ثمانين جلدة. وبذلك قال عبد الله بن مسعود. والأوزاعي. وجمهور الأئمة على أن العبد ينصف له الحد لما علمت أول السورة. وإذا أريد إقامة الحد على القاذف لا يجرد من ثيابه إلا في قول مالك لأن سببه وهو النسبة إلى الزنا كذبًا غير مقطوع به لجواز كونه صادقًا غير أنه عاجز عن البيان.
نعم ينزع عنه الفرو والثوب المحشو لأنهما يمنعان من وصول الألم إليه كذا في عامة الكتب، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع. والظاهر كما في الفتح أنه لو كان هذا الثوب فوق قميص نزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبًا من ذلك ويمنع إيصال الألم وكيف لا والضرب هنا أخف من ضرب الزنا. هذا وقرأ أبو زرعة. وعبد الله بن مسلم {بِأَرْبَعَةِ} بالتنوين فشهداء بدل أو صفة. وقيل حال أو تمييز وليس بذاك. وهي قراءة فصيحة ورجحها ابن جني على قراءة الجمهور بناءً على إطلاق قولهم: إنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة.
وتعقب بأن ذاك إذا لم تجر الصفة مجرى الأسماء في مباشرتها العوامل وأما إذا جرت ذلك المجرى فحكمها حكمها في العدد وغيره غاية ما في الباب أنه يجوز فيها الإبدال بعد العدد نظرًا إلى أنها غير متمحضة الاسمية و{شُهَدَاء} من ذلك القبيل فأربعة شهداء بالإضافة أفصح من {أَرْبَعَةِ شُهَدَاء} بالتنوين والاتباع.
وقال ابن عطية: وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى، وكأنه أراد الطعن في هذه القراءة على هذا القول، وفيه أن سيبويه إنما يرى ذلك في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال دون الذي بعده صفة فإنه على التفصيل الذي ذكر كما قال أبو حيان.
وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي مدة حياتهم كما هو الظاهر عطف على {اجلدوا} داخل في حكمه تتمة له كأنه قيل: فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فأجمعوا لهم الجلد والرد، ورد شهادتهم عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة معلق باستيفاء الجلد فلو شهدوا قبل الجلد أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادتهم، وقيل: ترد إذا ضربوا سوطًا، وقيل: ترد إذا أقيم عليهم الأكثر، ومن الغريب ما روى ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله: إن للابن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال: إنه إذا حد الأب سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه أي وكذا عدالة الأب وهذا ظاهر، وقوله تعالى: {أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} كلام مستأنف مبين لسوء حالهم في حكم الله عز وجل، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم هم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة، ويعلم مما أشرنا إليه أنهم فسقة عند الشرع الحاكم بالظاهر لا أنهم كذلك في نفس الأمر وعند الله عز وجل العالم بالسرائر لاحتمال صدقهم مع عجزهم عن الاتيان بالشهداء كما لا يخفى، وصرح بهذا بعض المفسرين.
وجوز أن يكون المراد الاخبار عن فسقهم عند الله تعالى وفي علمه، ووجه إذا كانوا كاذبين ظاهر، وأما وجهه إذا كانوا صادقين فهو أنهم هتكوا ستر المؤمنين وأوقعوا السامع في الشك من غير مصلحة دينية بذلك والعرض مما أمر الله تعالى بصونه إذا لم يتعلق بهتكه مصلحة فكانوا فسقة غير ممتثلين أمره عز وجل، ولا يخفى حسن حمل الآية على هذا المعنى وهو أوفق لما ذكره الحصكفي في «شرح الملتقى» نقلًا عن النجم الغزي من أن الرمي بالزنا من الكبائر وإن كان الرامي صادقًا ولا شهود له عليه ولو من الوالد لولده وإن لم يحد به بل يعزر ولو غير محصن؛ وشرط الفقهاء الإحصان إنما هو لوجوب الحد لا لكونه كبيرة، وقد روى الطبراني عن واثلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قذف ذميًا حد له يوم القيامة بسياط من نار» وهذه مسألة مختلف فيها، ففي «شرح جمع الجوامع» للعلامة المحلى قال الحليمي. قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر لأن الإيذاء في قذفهن دونه في الحرة الكبيرة المستترة، وقال ابن عبد السلام: قذف المحصن في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله تعالى والحفظة ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة أما قذف الرجل زوجته إذا أتت بولد يعلم أنه ليس منه فمباح، وكذا جرح الراوي والشاهد بالزنا إذا علم بل هو واجب انتهى، وظاهر ما نقل عن ابن عبد السلام نفى إيجاد الحد لا نفي كونه كبيرة أيضًا لشيوع توجه النفي إلى القيد في مثله، وإن قلنا: إنه هنا لنفي القيد والمقيد فهو ظاهر كما قال الزركشي فيماإذا كان صادقًا لا فيما إذا كان كاذبًا لجرأته على الله تعالى جل شأنه فهو كبيرة وإن كان في الخلوة، ولعل ما ذكره من وجوب جرح الشاهد بالزنا إذا علم مقيد بما إذا قدر على الاتيان بالشهود، والأولى عندي فيما إذا كان الضرر في قبول شهادته عليه يسيرًا عدم الجرح بذلك وإن قدر على إثباته، وما ذكر في جرح الراوي لا يتم فيما أرى على رأي من يعتبر الجرح المجرد عن بيان السبب، ولا يبعد القول بأن الرمي منه ما هو كفر كرمي عائشة رضي الله تعالى عنها سواء كان جهرًا أو سرًا وسواء كان بخصوص الذي برأه الله تعالى منه أو بغيره وكذا رمي سائر أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وكذا القول في مريم عليها السلام، ومنه ما هو كبيرة دون الكفر ومثاله ظاهر، ومنه ما هو صغيرة كرمي المملوكة والصغيرة، ومنه ما هو واجب كرمي شاهد على مسلم معصوم الدم بما يكون سببًا لقتله لو قبلت شهادته وعلم كونها زورًا وتعين ذلك لرد شهادته وصيانة ذلك المسلم من القتل ولو كان رميه مع إقامة البينة عليه بالزنا موجبًا لرجمه، ومنه ما هو سنة كرمي ترتبت عليه مصلحة دون مصلحة الرمي الواجب وقوله تعالى:


{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{إِلاَّ الذين تَابُواْ} أي رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا استثناء من الفاسقين كما صرح به أكثر الأصحاب. وقال بعضهم: المستثنى منه في الحقيقة {أولئك} وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك. ومحل المستثنى النصب لأنه عن موجب. وقوله عز وجل: {مِن بَعْدِ ذلك} لتهويل المتوب عنه أي من بعدما اقترفوا ذلك الذنب العظيم العائل. وقوله تعالى: {وَأَصْلَحُواْ} على معنى وأصلحوا أعمالهم بالاستحلال ممن رموه. وهذا ظاهر إن كان قد بقي حيًا فإن كان قد مات فلعل الاستغفار له يقوم مقام الاستحلال منه كما قيل في نظير المسألة. فإن كانوا قد رموا أمواتًا فالظاهر أنهم يستحلون ممن خاصمهم وطلب إقامة الحد عليهم. ويحتمل أن يغني عنه الاستغفار لمن رموه. والجمع بين الاستحال من أولئك المخاصمين والاستغفار للمرميين أولى ولم أر من تعرض لذلك.
وكون الاستثناء من الجملة الأخيرة مذهب الحنفية فعندهم لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح لكن قالوا: إن حد الكافر ثم أسلم قبلت شهادته وإن لم تكن تقيل قبل على أهل الذمة، ووجهه أن النص موجب لرد شهادته الناشئة عن أهليته الثابتة له عند القذف ولذا قيل {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] دون ولا تقبلوا شهادتهم أي ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلهم لهم عند الرمي والشهادة التي كانت حاصلة للكافر عند الرمي هي الشهادة على أبناء جنسه فتدخل تحت الرد، وأما الشهادة التي اعتبرت بعد الإسلام فغير تلك الشهادة ولهذا قبلت على أهل الإسلام وغيرهم فلم تدخل تحت الرد، وهذا بخلاف العبد إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل شهادته لأنه لم تكن له شهادة من قبل للرق فلزم كون تتميم حده برد شهادته التي تجدد له، وقد طلب الفرق بينه وبين من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام فإنه لا يحدث حيث توقف حكم الموجب في العبد إلى أن أمكن ولم يتوقف في الزنا في دار الحرب إلى الامكان بالخروج إلى دار الإسلام.
وأجيب بأن الزنا في دار الحرب لم يقع موجبًا أصلًا لعدم قدرة الإمام فلم يكن الإمام مخاطبًا بإقامته أصلًا لأن القدرة شرط التكليف لو حد بعد خروجه من غير سبب آخر كان بلا موجب وغير الموجب لا ينقلب موجبًا بنفسه خصوصًا في الحد المطلوب درؤه، وأما قذف العبد فموجب حال صدوره للحد غير أنه لم يكن تمامه في الحال فيتوقف تتميمه على حدوث ذلك بعد العتق كذا قيل، وقال في «المبسوط» في الفرق بين الكافر إذا أسلم بعد الحد والعبد إذا اعتق بعده: إن الكافر استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة له عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تكن مجروحة بخلاف العبد فإنه بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد، ثم لا فرق في العبد بين أن يكون حد ثم أعتق وبين أن يكون أعتق ثم حد حيث لم تقبل شهادته في الصورتين، وأما الكافر فإنه لو قذف محصنًا ثم أسلم ثم حد لا تقبل شهادته، ومقتضى الآية عدم قبول كل شهادة للمحدود حادثة كانت أو قديمة لما أن {شَهَادَةً} نكرة وهي واقعة في حيز النهي فتفيد العموم كالنكرة الواقعة في حيز النفي، وهذا يعكر على ما مر من قبول شهادة الكافر المحدود إذا أسلم.
وأجاب العلامة ابن الهمام بأن التكليف بما في الوسع وقد كلف الحكام برد شهادته فالامتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة فحيث ردت تحقق الامتثال وتم وقد حدثت أخرى فلو ردت كانت غير مقتضى إذ الموجب أخذ مقتضاه وللبحث فيه مجال، ومقتضى العموم أيضًا عدم قبول شهادة المحدود في الديانات وغيرها وهي رواية المنتقى، وفي رواية أخرى أنها تقبل في الديانات وكأنهم اعتبروها رواية وخبرًا لا شهادة ورب شخص ترد شهادته وتقبل روايته. وأورد على العموم أنهم اكتفوا في النكاح بشهادة المحدودين. وأجيب بأن الشهادة هناك عنى الحضور وإنما يكتفي به في انعقاد النكاح وقد صرحوا بأن للنكاح حكمين حكم الانعقاد وحكم الإظهار ولا يقبل في الثاني إلا شهادة من تقبل شهادته في سائر الأحكام كما في «شرح الطحاوي». والحاصل أن الآية تدل على وجوب رد شهادة المحدود على الحكام عنى أنه إذا شهد عندهم على حكم وجب عليهم رد شهادته ويندرج في ذلك شهادته في النكاح لأنه يشهد عندهم إذا وقع التجاحد فلا يعكر على العموم اعتبار حضوره مجلس النكاح في صحة انعقاده إذ ذلك أمر وراء ما نحن فيه كذا قيل فليتدبر. وذهب الشافعي إلى قبول شهادة المحدود إذا تاب، والمراد بتوبته أن يكذب نفسه في قذفه، ومبنى الخلاف على المشهور الخلاف فيما إذا جاء استثناء بعد جمل مقترنة بالواو هل ينصرف للجملة الأخيرة أو إلى الكل أو هناك تفصيل فالذي ذهب إليه أصحاب الشافعي انصرافه إلى الكل، والذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة انصرافه للجملة الأخيرة، وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري. وجماعة من المعتزلة إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابًا عن الأولى ولا يضمر فيها شيء افي الأولى فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أربعة أقسام، الأول: أن تختلف الجملتان نوعًا كما لو قال: أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر، الثاني: أن يتحدا نوعًا ويختلفا اسمًا وحكمًا كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران، الثالث: أن يتحدا نوعًا ويشتركا حكمًا لا اسمًا كما لو قال: سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال، الرابع: أن يتحدا نوعًا ويشتركا اسمًا لا حكمًا ولا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال، وقوة اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في هذه الأقسام على هذا الترتيب وإن لم يكن الشروع في الجملة الثانية إضرابًا عن الأولى بأن كان بين الجملتين نوع تعلق فالاستثناء ينصرف إلى الكل وذلك على أربعة أقسام أيضًا:
الأول: أن يتحد الجملتان نوعًا واسمًا لا حكمًا غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام.
الثاني أن يتحد الجملتان نوعًا ويختلفا حكمًا واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال: أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال.
الثالث: بعكس ما قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال.
الرابع: أن يختلف نوع الجمل إلا أنه قد أضمر في الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدًا وجعل آية الرمي التي نحن فيها من ذلك حيث قيل: إن جملة مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أمر وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} نهى وقوله جل وعلا:{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} [النور: 4] خبر وهي داخلة أيضًا تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة وداخلة أيضًا تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها، وذهب الشريف المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك، وذهب القاضي أبو بكر. والغزالي. وجماعة إلى الوقف، وقال الآمدي: المختار أنه مهما ظهر كون الواو للابتداء فالاستثناء يكون مختصًا بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من الأقسام الثمانية لعدم تعلق إحدى الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو الابتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب الوقف، وذكر حجج المذاهب بما لها وعليها في الأحكام، وفي التلويح وغيره أنه لا خلاف في جواز رجوع الاستثناء إلى كل وإنما الخلاف في الأظهر وفيه نظر فإن بعض حجج القائلين برجوعه إلى الجملة الأخيرة قد استدل بما يدل على عدم جواز رجوعه للجميع، قال القلانسي: إن نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما ذهب إليه أكابر البصريين فلو قيل برجوعه إلى الجميع لكان ما بعد إلا منتصبًا بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحدهما للآخر في العمل يلزم أن يكون المعمول الواحد مرفوعًا منصوبًا معًا وهو محال ولأنه إن كان كل منهما مستقلًا في العمل لزم عدم استقلاله ضرورة أنه لا معنى لكون كل مستقلًا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن لم يكن كل منهمامستقلًا لزم خلاف المفروض، وإن كان المستقل البعض دون البعض لزم الترجيح بلا مرجح، ووجه دلالته وإن بحث فيه على عدم جواز رجوعه للجميع ظاهر وكما اختلف الأصوليون في ذلك اختلف النحاة فيه ففي «شرح اللمع» أنه يختص بالأخيرة وأن تعليقه بالجميع خطا للزوم تعدد العامل في معمول واحد إلا على القول بأن العامل إلا أو تمام الكلام.
وقال أبوحيان: لم أر من تكلم على هذه المسألة من النحاة غير المهاباذي. وابن مالك فاختار ابن مالك عود الاستثناء إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي عوده إلى الجملة الأخيرة، وقال الولي بن العراقي: لم يطلق ابن مالك عوده إلى الجمل كلها بل استثنى من ذلك ما إذا اختلف العامل والمعمول كقولك: اكس الفقراء وأطعم أبناء السبيل إلا من كان مبتدعًا فقال في هذه الصورة: إنه يعود إلى الأخير خاصة، ونقل عن أبي علي الفارسي القول برجوعه إلى الأخيرة مطلقًا وهذا كقول الحنفية في المشهور، والحق أنهم إنما يقولون برجوعه إلى الأخيرة فقط إذا تجرد الكلام عن دليل رجوعه إلى الكل أما إذا وجد الدليل عمل به وذلك كما في قوله تعالى في المحاربين {أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ} إلى قوله سبحانه: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33] فإن قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] يقتضي رجوعه إلى الكل فإنه لو عاد إلى الأخيرة أعني قوله سبحانه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [آل المائدة: 33] لم يبق للتقييد بذلك فائدة للعلم بأن التوبة تسقط العذاب فليس فائدة {مِن قَبْلُ} إلخ إلا سقوط الحد وعلى مثل ذلك ينبغي حمل قول الشافعية بأن يقال: إنهم أرادوا رجوع الاستثناء إلى الكل إذا لم يكن دليل يقتضي رجوعه إلى الأخيرة.
وذكر بعض أجلة المحققين أن الحنفية إنما قالوا برجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة هنا لأن الجملتين الأوليين وردتا جزاء لأنهما أخرجتا بلفظ الطلب مخاطبًا بهما الأئمة ولا يضر اختلافهما أمرًا ونهيًا والجملة الأخيرة مستأنفة بصيغة الإخبار دفعًا لتوهم استبعاد كون القذف سببًا لوجوب العقوبة التي تندرىء بالشبهة وهي قائمة هنا لأن القذف خبر يحتمل الصدق ورا يكون حسبة، ووجه الدفع أنهم فسقوا بهتك ستر العفة بلا فائدة حيث عجزوا عن الإثبات فلذا استحقوا العقوبة وحيث كانت مستأنفة توجه الاستثناء إليها.
ونقل عن الشافعي أنه جعل {وَلاَ تَقْبَلُواْ} [النور: 4] استئنافًا منقطعًا عن الجملة السابقة وأبى أن يكون من تتمة الحد لأنه لا مناسبة بين الجلد وعدم قبول الشهادة وجعل الاستثناء مصروفًا إليه بجعل من تاب مستثنى من ضمير {لَهُمْ} ويكون قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} [النور: 4] اعتراضًا جاريًا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة غير منقطع عما قبله ولهذا جاز توسطه بني المستثنى والمستثنى منه ولا تعلق للاستثناء به، وآثر ذلك ابن الحاجب في أماليه حيث قال: إن الاستثناء لا يرجع إلى الكل أما الجلد فبالاتفاق، وأما قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} [النور: 4] فلأنه إنما جيء به لتقرير منع الشهادة فلم يبق إلا الجملة الثانية فيرجع إليها، وتعقب بأن استنئاف {وَلاَ تَقْبَلُواْ} [النور: 4] إلخ في غاية البعد، والمراد من عدم قبول الشهادة ردها ومناسبته للجلد ظاهرة لأن كلًا منهما مؤلم زاجر عن ارتكاب جريمة الرمي وكم من شخص لا يتألم بالضرب كما يتألم برد شهادته، ورا يقال: إن رد الشهادة قطع للآلة الخائنة معنى وهي اللسان فيكون كقطع اليد حقيقة في السرقة، ومن أنصف رأي مناسبته للجلد أتم من مناسبة التغريب له لأن التغريب را يكون سببًا لزيادة الوقوع في الزنا لقلة من يراقب ويستحي منه في الغربة وقد تضطر المرأة إذا غربت إلى ما يسد رمقها فتسلم نفسها لتحصيل ذلك، وأيضًا الجلد فعل يلزم على الإمام فعله والرد المراد من عدم القبول كذلك وقد خوطب بكلتا الجملتين الإنشائيتين لفظًا ومعنى الأئمة وبهذا يقوي أمر المناسبة.
واعترض الزيلعي على القول بأن جملة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} [النور: 4] تعليل لرد الشهادة فقال: لا جائز أن يكون رد شهادته لفسقه لأن الثابت بالنص في خبر الفاسق هو التوقف لقوله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} [الحجرات: 6] لا الرد وعلة الرد هنا ليست إلا أنه حد انتهى، وفيه نظر ولم يجعل الشافعي على هذا النقل الجملة المذكورة مع كونها جارية مجرى التعليل لما قبلها معطوفة عليه لما قال غير واحد من أن العطف بالواو يمنع قصد التعليل لرد الشهادة بسبب الفسق لأن العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل إنما تذكر بالفاء، وكذا ينبغي أن لا تكون معطوفة على ما أشير إليه سابقًا من أنها علة لاستحقاق العقوبة إذ ذلك غير منطوق، وانتصر للشافعي عليه الرحمة فيما ذهب إليه من قبول شهادته إذا تاب بأنه إذا جعلت الجملة تعليلًا للرد يتم ذلك ولو سلم رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو لوجوب زوال الحكم بزوال العلة، ولا أظنه يدفع إلا بالتزام أنها ليست للتعليل.
وقال بعضم: لا انقطاع بين الجمل عند الشافعي ومقتضى أصله المشهور رجوع الاستثناء إلى الجميع فيلزم حينئذ سقوط الجلد بالتوبة لكنه لا يقول بذلك لأن تحقيق مذهبه أن الرجوع إلى الكل قد يعدل عنه وذلك عند قيام الدليل وظهور المانع والمانع هنا من رجوعه إلى الجملة الأولى على ما قيل الإجماع على عدم سقوط الجلد بالتوبة لما فيه من حق العبد، وأولى منه ما أوما إليه القاضي البيضاوي من أن الاستسلام للجلد من تتمة التوبة فكيف يعود إليه، ولا يمكن أن يقال: إن عدم قبول الشهادة والتفسيق من تتمتها أيضًا كما لا يخفى، وقيل: يجوز أن تخرج الآية على أصله المشهور، ولا مانع من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأولى أيضًا لما أن المستثنى {هُوَ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب العفو من المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضًا، وفيه أن كون طلب العفو من الإطلاح غير نافع لأن الجلد لا يسقط بطلب العفو بل بالعفو وهو ليس من جملة هذا الإصلاح إذ العفو فعل المقذوف وهذا الإصلاح فعل القاذف فلم يصح صرف الاستثناء إلى الكل كما هو أصله المشهور.
وقال الزمخشري: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن يكون الجمل الثلاث جموعهن جزاء الشرط، والمعنى ومن قذف فأجمعوا لهم بين الأجزئة الثلاثة إلا الذين تابوا منهم فيعودون غير مجلودين ولا مردودي الشهادة ولا مفسقين، قال في الكشف: وهذا جار على أصل الشافعي من أن الاستثناء يرجع إلى الكل وانضم إليه هاهنا أن الجمل دخلت في حيز الشرط فصرن كالمفردات، وتعقب القول بدخوله قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} [النور: 4] في حيز الجزاء بأن دليل عدم المشاركة في الشرط يقتضي عدم الدخول فإنه جملة خبرية غير مخاطب بها الأئمة لإفراد الكاف في {أولئك} فهو عطف على الجملة الإسمية أي الذين يرمون إلخ أو مستأنف لحكاية حال الرامين عند الشرع، وأورد عليه أن عطف الخبر على الإنشاء وعكسه لاختلاف الأغراض شائعان في الكلام وأن إفراد كاف الخطاب مع الإشارة جائز في خطاب الجماعة كقوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذلك} [البقرة: 25] على أن التحقيق {إِنَّ الذين يَرْمُونَ} [النور: 4] منصوب بفعل محذوف أي اجلدوا الذين إلخ فهو أيضًا جملة فعلية إنشائية مخاطب بها الأئمة فالمانع المذكور قائمة هنا مع زيادة العدول عن الأقرب إلى الأبعد ولو سلم أن {الذين} مبتدأ فلابد في الإنشائية الواقعة موقع الخبر من تأويل وصرف عن الإنشائية عند الأكثر وحينئذ يصح عطف {أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون} [النور: 4] عليه، وقال الزمخشري: معنى {أُولَئِكَ هُمُ الفاسقون} فسقوهم والإنصاف يحكم بعدم ظهور دخول الجملة الأخيرة في حيز الجزاء وجميع ما ذكروه إنما يفيد الصحة لا الظهور.
ولعل الظاهر أنها استئناف تذييلي لبيان سوء حال الرامين في حكم الله تعالى وحينئذ عود الاستئناف إليه ظاهر، لا يقال: إن ذلك ينفي الفائدة لأنه معلوم شرعًا أن التوبة تنزيل الفسق من غير هذه الآية لأنا نقول: لا شبهة في أن العلم بذلك من طريق السمع وقد ذكر الدال عليه منه وكون آية أخرى تفيده لا يضر للقطع بأن طريق القرآن تكرار الدوال خصوصًا إذا كان التأكيد مطلوبًا، هذا وإلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ذهب الحسن.
وابن سيرين. وسعيد بن المسيب. وسعيد بن جبير. وقد روى ذلك عن كل الجلال السيوطي في الدر المنثور وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته ذهب مالك وأحمد، وروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز. وطاوس. ومجاهد. والشعبي. والزهري. ومحارب وشريح. ومعاوية بن قرة. وعكرمة. وسعيد بن جبير على ما ذكره الطيبي وعن ابن جبير من القائلين كقول الشافعي يخالفه ما سمعت آنفًا، وعد ابن الهمام شريحًا ممن قال كقول أبي حنيفة وعن ابن عباس روايتان، وفي صحيح البخاري جلد عمر رضي الله تعالى عنه أبا بكرة. وشبل بن معبد. ونافعًا بقذف المغيرة ثم استتابهم، وقال من تاب قبلت شهادته، ومن تتبع تحقق أن أكثر الفقهاء قائلون كقول الشافعي عليه الرحمة ودعوى إجماع فقهاء التابعين عليه غير صحيحة كما لا يخفى والله تعالى أعلم، ووجه التعليل المستفاد من قوله تعالى: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} على القولين ظاهر لكن قيل إنه على قول أبي حنيفة أظهر وهو تعليل لما يفيده الاستثناء ولا محل من الإعراب، وجوز أبو البقاء كون {الذين} مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي لهم.
واختار الجمهور الاستئناف والاستثناء وهو على ما ذهب إليه أصحابنا منقطع، وبينه أبو زيد الدبوسي في التقويم بما حاصله أن المستثنى وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما هومعنى الاستثناء المتصل بل قصد إثبات حكم آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقًا. وتعقبه العلامة الثاني بأنه إنما يتم إذا لم يكن معنى {هُمُ الفاسقون} [النور: 4] الثبات والدوام وإلا فلا تعذر للاتصال فلا وجه للانقاطع، وبينه فخر الإسلام بأن المستثنى غير داخل في صدر الكلام لأن التائب ليس بفاسق ضرورة أنه عبارة عمن قام به الفسق والتائب ليس كذلك لزوال الفسق بالتوبة، وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء معنى الفعل، وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح الإخراج لأن التائب ليس خرج ممن كان فاسقًا في الزمان الماضي.
واعترض بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الاستثناء ليس هو الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك وهم الذين يرمون المشار إليه بقوله تعالى: {وَأُوْلئِكَ} [النور: 4] ولا شك أن التائبين داخلون فيهم مخرجون عن حكمهم وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا التائبين منهم كما يقال القوم منطلقون إلا زيدًا متصلًا بناء على أن زيدًا داخل في القوم مخرج عن حكم الانطلاق فيصح الاستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ هو القوم أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب وإن عمل الصفة في المستثنى أظهر، وليس المراد أن المستثنى منه لفظًا هو لفظ القوم البتة وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام أن زيدًا داخل في الذوات المحكوم عليهم بالإطلاق مخرج عنم حكم الانطلاق كما في قولنا انطلق القوم إلا زيدًا وكذا الكلام في الآية.
وأجيب بأن الفاسقين هاهنا إما أن يكون عنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو عنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو من قام به الفسق في الجملة ماضيًا كان أو حالًا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشارع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة. ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولًا للمستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء وهذا مراد فخر الإسلام بعدم تناول الفاسقين للتائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الاستثناء وإن أريد الثاني أو الثالث فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق عنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق.
ولا يخفى أن منع عدم دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عنهم بالمعنى الآخر غير موجه وإن الاستقلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على {أولئك} المشار به إلى {الذين يَرْمُونَ} [النور: 4] وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة وكفى به مخصصًا اه. وفيه أن الاجماع لا يكون مخصصًا فيما نحن فيه لكونه متراخيًا عن النص ضرورة أنه لا إجماع إلا بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم فالحكم بالفسق على {أولئك} المشار به إلى {الذين يَرْمُونَ} [النور: 4] وهو عام فيتم الاستدلال.
وأجيب عن هذا بأن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله اللفظ لا التخصيص المصطلح وهو كما ترى. وفي قوله: ومن شرط الاستثناء المتصل إلخ بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا، وقال العلامة: الظاهر كون الاستثناء متصلًا أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنه غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكأنه أراد أنهم غير محكوم عليهم بالفسق الدائم وهو المحكوم به عليه في الصدر بقرينة الجملة الاسمية.
وذكر بعض الأفاضل في توجيه كونه متصلًا أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له لما صح استثناؤه فههنا{الذين يَرْمُونَ} [النور: 4] شامل للتائبين منهم فلا يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدخل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدًا.
والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال: خلق الله تعالى كل شيء إلا ذاته سبحانه وصفاته العلى، قال القلامة: ويمكن الجواب عن هذا بأنه لا فائدة للاستثناء المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر الإسلام بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وبحث فيه بأن عدم التناول الشرعي مستفاد من الاستثناء المذكور في الآية والحديث أعني «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» مبين له فلا وجه لمنع وجود الفائدة وبأن كون خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلومًا هنا غير معلوم لمكان الخلاف في اشتراط بقاء الفعل وبأن الفائدة الجديدة في المنقطع التي يعرى عنها المتصل غير ظاهرة، وقال أيضًا: لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين والإثبات له فإن الاستثناء كما يجوز من المحكوم به يجوز من غيره كما يقال: كرام أهل بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدًا عنى أن زيدًا وإن كان غنيًا لكنه خارج عن الحمل على الكرام لأنا نقول: فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين ولا يكونوا من القاذفين والأمر بالعكس، وقد يقال: إن الاستثناء منقطع على معنى أنهم فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة، ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكليف في التقدير أي إلا حال توبة الذين إلخ أو إلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل {الذين} حرفًا مصدريًا لا اسمًا موصولًا وضمير {تَابُواْ} عائدًا على {أولئك} [النور: 4] وبعد اللتيا والتي يكون الاستثناء مفرغًا متصلًا لا منقطعًا انتهى فتأمل.


{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)}
{والذين يَرْمُونَ أزواجهم} بيان لحكم الرامين لأزواجهم خاصة وهو ناسخ لعموم المحصنات وكانوا قبل نزول هذه الآية يفهمون من آية {والذين يَرْمُونَ} [النور: 4] إلخ أن حكم من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء فقد أخرج أبو داود وجماعة عن ابن عباس قال: لما نزلت و{الذين يَرْمُونَ المحصنات} الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار ألا تسمعوا ما يقول سيدكم؟» قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرًا وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته. فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من عند الله تعالى ولكني تعجبت إني لو وجدت لكاعًا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال: فما لبثوا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلًا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله تعالى لي منها مخرجا.ً فقال: يا رسول الله إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله تعالى يعلم إني لصادق. فوالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام الوحي وكان إذا نزل عليه عليه الصلاة والسلام الوحي عرفوا ذلك في تربد جلده فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت {والذين يَرْمُونَ أزواجهم} الآية فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبشر يا هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي» وقال عليه الصلاة والسلام «أرسلوا إليها» فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها. فقالت: كذب. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاعنوا بينهما» الحديث، ومنه وكذا من رواية أخرى ذكرها البخاري في صحيحه.
والترمذي؛ وابن ماجه يعلم أن قصة هلال سبب نزول الآية، وقيل: نزلت في عاصم بن عدي، وقيل: في عويمر بن نصر العجلاني؛ وفي صحيح البخاري ما يشهد له بل قال السهيلي إن هذا هو الصحيح ونسب غيره للخطأ، والمشهور كما في البحر أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر، وأخرج أبو يعلى. وابن مردويه عن أنس أنه قال: لأول لعان كان في الإسلام ما وقع بين هلال بن أمية وزوجته، ونقل الخفاجي هنا عن السبكي إشكالًا وأنه قال: إنه إشكال صعب وارد على آية اللعان والسرقة والزنا وهو أن ما تضمن الشرط نص في العلية مع الفاء ومحتمل لها بدونها ولتنزيله منزلة الشرط يكون ما تضمنه من الحدث مستقبلًا لا ماضيًا فلا ينسحب حكمه على ما قبله ولا يشمل ما قبله من سبب النزول، وتعقبه بأنه لا صعوبة فيه بل هو أسهل من شرب الماء البارد في حر الصيف لأن هذا وأمثاله معناه إن أردتم معرفة هذا الحكم فهو كذا فالمستقبل معرفة حكمه وتنفيذه وهو مستقبل في سبب النزول وغيره، والقرينة على أن المراد. هذا أنها نزلت في أمر ماض أريد بيان حكمه ولذا قالوا: دخول سبب النزول قطعي.
ولا حاجة إلى القول بأن الشرط قد يدخل على الماضي ولا أن ما تضمن الشرط لا يلزمه مساواته لصريحه من كل وجه ولا أن دخول ما ذكر بدلالة النص لفساده هنا انتهى، ثم أن المراد هنا نظير ما مر والذين يرمون بالزنا أزواجهم المدخول بهن وغير المدخول بهن وكذا المعتدات في طلاق رجعي {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء} أربعة يشهدون بما رموهن به من الزنا. وقرئ {تَكُنْ} بالتاء الفوقية وقراءة الجمهور أفصح {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} بدل من {شُهَدَاء} لأن الكلام غير موجب والمختار فيه الإبدال أو إلا عنى غير صفة لشهداء ظهر إعرابها على ما بعدها لكونها على صورة الحرف كما قالوا في أل الموصولة الداخلة على أسماء الفاعلين مثلًا، وفي جعلهم من جملة الشهداء إيذان كما قيل من أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة وبذلك ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى: {فشهادة أَحَدِهِمْ} أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله سبحانه: {أَرْبَعُ شهادات} خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع شهادات {بالله} متعلق بشهادات، وجوز بعضهم تعلقه بشهادة.
وتعقب بأنه يلزم حينئذٍ الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو الخبر، وأنت تعلم أن في كون الخبر أجنبيًا كلامًا وأن بعض النحويين أجاز الفصل مطلقًا وبعضهم أجاز فيما إذا كان المعمول ظرفًا كما هنا.
وقرأ الأكثر {أَرْبَعُ} بالنصب على المصدرية والعامل فيه {شَهَادَةً} وهي خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أو مبتدأ خبره محذوف أي فعليهم شهادة أو فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله واجبة أو كافية، ولا خلاف في جواز تعلق الجار على هذه القراءة بكل من الشهادة والشهادات وإنما الخلاف في الأولى {إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي فيما رماها به من الزنا، والأصل على أنه إلخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها باللام للتأكيد، ولا يختص التعليق بأفعال القلوب بل يكون فيما يجري مجراها ومنه الشهادة لإفادتها العلم، وجوز أن تكون الجملة جوابًا للقسم بناءً على أن الشهادة هنا عنى القسم حتى قال الراغب. إنه يفهم منها ذلك وإن لم يذكر {بالله} وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8